أوكرانيا لا تواجه اليوم شبح إطلاق “نورد ستريم 2” فقط، بل أزمات طاقة متتالية، متأثرة بارتفاع أسعار الغاز والنفط إلى مستويات قياسية، وتعطل الكثير من محطاتها الحرارية والكهربائية بسبب عدم توفر الوقود
صفوان جولاق21/11/2021|آخر تحديث: 21/11/202101:41 PM (مكة المكرمة)
كييف- رغم أن أوكرانيا كانت الدولة الثانية في الاتحاد السوفياتي السابق من حيث مصادر الطاقة والقدرة على إنتاجها وورثت عنه كثيرا من المحطات والمناجم فإن الطاقة اليوم جرح غائر في اقتصادها المتعثر تضع روسيا عليه الملح -إن صح التعبير- كلما أرادت الضغط على كييف.
ولكي ندرك حجم هذا الإرث يكفي أن نعرف أنه لدى أوكرانيا 4 محطات للطاقة النووية (بعد أن خرجت محطة تشرنوبل من الخدمة عام 1986)، وعدد كبير من محطات توليد الطاقة الحرارية والكهربائية، ومحطات لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهري دنيبر ودنيستر، ومناجم كثيرة من الفحم كانت تقدم المواد الخام لتوليد الطاقة الحرارية والكهربائية.
هذا بالإضافة إلى أن أوكرانيا ورثت عن الاتحاد السوفياتي ثاني أكبر شبكة لنقل وتوزيع الغاز في أوروبا، بعد روسيا، وهي شبكة تضم نحو 37.1 ألف كلم من الأنابيب الرئيسية، مع 72 محطة للضغط، و13 منشأة للتخزين تحت الأرض بقدرات استيعابية تبلغ نحو 32 مليار متر مكعب، أي ما يعادل نحو 21.3% من الحاجة السنوية للغاز في عموم القارة الأوروبية.
ومع ذلك، وإلى جانب أزماتها السياسية يئن اقتصاد أوكرانيا اليوم من أزمات الحاجة إلى الطاقة عموما، وإلى الغاز والفحم على وجه الخصوص، ولا سيما بعد أن تدهورت علاقات البلاد مع روسيا منذ 2014.
كارثة اقتصادية
واليوم أيضا، تقف أوكرانيا على أعتاب “كارثة اقتصادية” كما يصفها مسؤولون، وذلك بسبب مشروع “نورد ستريم 2” (Nord Stream 2) لنقل الغاز.
ويتجاوز الخط الروسي الألماني -بشكل تام- شبكات النقل الأوكرانية، ويهدد كييف بخسارة نحو مليارين إلى 3 مليارات دولار سنويا من رسوم العبور.
وهكذا، يهدد إطلاقه بتحويل شبكات نقل الغاز في أوكرانيا، من ثروة إلى خردة إن صح التعبير، مع تهديد الكثيرين بخسارة وظائفهم.
“نورد ستريم 2” أو “السيل الشمالي 2” مشروع لنقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق بأنبوب مزدوج يتجاوز طول كل فرع منه 1200 كيلومتر، وبذلك يكون أطول خط أنابيب تحت مياه البحر
ما هو “نورد ستريم 2″؟
“نورد ستريم 2” أو “السيل الشمالي 2” مشروع لنقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق بأنبوب مزدوج يتجاوز طول كل فرع منه 1200 كيلومتر، وبذلك يكون أطول خط أنابيب تحت مياه البحر.
وأعلنت شركة “غاز بروم” (Gazprom) الروسية للطاقة عن المشروع في 2017، وبدأ العمل عليه في 2018 بميزانية حددت آنذاك بنحو 8 مليارات دولار.
وبحسب الشركة، يستطيع الخط نقل كمية سنوية من الغاز تبلغ نحو 55 مليار متر مكعب، أي أنه قادر على تلبية كامل الحاجة الأوروبية للوقود الأزرق.
ولهذا، تتصدر أوكرانيا والولايات المتحدة مشهد المعارضين لهذا المشروع، فهي إلى جانب عامل الخسارة الأوكرانية منه ترى أنه سيحكم سيطرة روسيا على سوق الطاقة في أوروبا، وسيستخدم لاحقا لأهداف جيوسياسية.
وعرقلت واشنطن المشروع شهورا عديدة بفرض عقوبات على الشركات المنفذة والمشاركة في بنائه، لكنها رفعتها بُعيد انتخاب الرئيس جو بايدن بحجة أن المشروع “بات أمرا واقعا”.
وبحسب مراقبين، سعى بذلك بايدن إلى تحسين علاقات بلاده مع برلين بعد أن ساءت في ظل حكم سابقه دونالد ترامب، لكنه اشترط تقديم ضمانات ألمانية لكييف بعدم استخدام روسيا المشروع للضغط على أوكرانيا.
هل هي خيانة؟
لقد كان جليا أن فكرة الضمانات لم تعجب أوكرانيا حتى أن الأمر وصل حد اتهام برلين وواشنطن بـ”خيانة المصالح الأوكرانية”.
أوليكسي أريستوفيتش المستشار في مكتب الرئاسة الأوكرانية قال إن “المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صمدت لمدة 7 سنوات في وجه روسيا المعتدية على أوكرانيا، لكنها في نهاية الأمر تخلت قليلا عن المصالح الأوكرانية لصالح روسيا”.
وفي مقال سابق له قال يوري فيترينكو الرئيس التنفيذي لشركة “نافتوغاز” (NAFTOGAZ) الأوكرانية للطاقة إن “الكثير من الأوكرانيين سيشعرون بالخيانة بعد تشغيل نورد ستريم 2، أوكرانيا ستخسر جزءا كبيرا من ناتجها المحلي، وهذا سيشكل ضربة قوية لنا”.
أزمات متتالية
لكن أوكرانيا لا تواجه اليوم شبح إطلاق “نورد ستريم 2” فقط، بل أزمات طاقة متتالية متأثرة بارتفاع أسعار الغاز والنفط إلى مستويات قياسية، وتعطل الكثير من محطاتها الحرارية والكهربائية بسبب عدم توفر الوقود.
وقال إيفان كرولكو النائب الأول لرئيس لجنة الميزانية في البرلمان الأوكراني “في بلادنا 88 وحدة طاقة في المحطات الحرارية، واليوم يجري تشغيل 37 منها فقط، فيما توقفت عن العمل 51 وحدة بسبب عدم توفر الوقود”.
وقال الخبير في “معهد إستراتيجيات الطاقة” يوري كورولتشوك إن “محطات الطاقة النووية تلبي نحو 55% من حاجة أوكرانيا إلى الكهرباء فقط، ونسبة 35% تعتمد على محطات وقودها الغاز والفحم”.
وأضاف كورولتشوك في حديث للجزيرة نت أن “أوكرانيا تستورد الغاز لأنها لا تنتج كامل حاجتها منه (نحو 18% فقط)، وتعيش أزمة نقص في الفحم بحكم أنها خسرت معظم مناجمها في مناطق الشرق التي يسيطر عليها الانفصاليون الموالون لروسيا”.
وتابع “الطاقة المتجددة لا تنتج أكثر من 8% من حاجتنا إلى الكهرباء، ومهما تحدث المسؤولون عن حماية البيئة والانتقال إلى الطاقة النظيفة تبقى حقيقة أن الفحم يشكل 95.4% من احتياطيات الوقود العضوي لدينا، وعلى أساسه تعتمد معظم محطات الطاقة الحرارية والكهربائية”.
أوراق بيد روسيا
والناظر من داخل الصندوق وخارجه قد يدرك جيدا أن أوراق الضغط والتأثير الرئيسية في هذه الأزمات بيد روسيا التي تتجه -يوما بعد يوم- نحو الهيمنة على سوق الطاقة، حتى أن أصواتا في أوكرانيا باتت تلمح صراحة إلى استيراد الكهرباء من روسيا وبيلاروسيا المجاورة بغض النظر عن حالة العداء والتوتر القائمة معها.
ويقول الخبير الاقتصادي في مركز صوفيا للدراسات أندري يرمولايف “بورقة الغاز تدفع روسيا أوروبا نحو إعادة التطبيع معها بعد قطيعة نسبية سبّبها العدوان الروسي على أوكرانيا منذ 2014”.
ويضيف يرمولايف للجزيرة نت “كذلك تفعل روسيا مع أوكرانيا، فهي تهدد شبكاتها بـ”نورد ستريم 2″ بعد 2024 (موعد انتهاء عقد الترانزيت الحالي بين الجانبين)، وتدفعها نحو استيراد الفحم من مناطق الانفصاليين في الشرق، فيما يشبه الاعتراف بهم، الأمر الذي ترفضه كييف حتى الآن”.
ويختم قائلا إن “خيارات أوكرانيا محدودة وضعيفة في هذه الأزمات، فهي لا تزال تطالب أميركا وأوروبا بعرقلة إطلاق مشروع “نورد ستريم 2″، مع أنه بات واقعا عمليا وأوشك على الانطلاق فعلا”.
أزمات مفتعلة
ومع كل ذلك ترفض السلطات في أوكرانيا هذا الطرح ورسم هذه الصورة المأساوية، وتعتبر أن الحديث عن النقص في إمدادات الطاقة مفتعل لأهداف ومصالح سياسية.
وعلى خلفية هذا الافتعال حذر رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي فئة الأوليغارشية (كبار رجال الأعمال الذي يملكون نفوذا كبيرا في الحياة السياسية والاقتصادية)، متعهدا بـ”حقبة جهنمية” تنتظرهم، في إشارة -على ما يبدو- إلى تبعية الكثير من شركات الطاقة ومناجم الفحم لرجال أعمال وسياسيين كبار وتأثر الأسعار بقراراتهم.
واعتبر زيلينسكي أن أزمة الطاقة لا تقتصر على أوكرانيا فقط، بل تعصف بالعالم كله اليوم، وقال “بالطبع، هذا يؤثر أيضا على وضعنا، لكنه بالتأكيد ليس مأساويا كما تصوره بعض وسائل الإعلام بهستيرية”، على حد وصفه.
المصدر : الجزيرة