فلتنحنوا للعلم الفرنسي ثم للعلم الألماني.. هذه كانت النصيحة المتواضعة التي أعطاها كونراد آديناور، مستشار ألمانيا المقسمة، الذي كان يحيا الجرح الطريّ لهزيمة النازية، للساعين إلى خلافته. في العشريات الثلاث التي تلت سقوط جدار برلين تغيرت أمور كثيرة في الطريقة التي كانت ألمانيا تنظر بها إلى نفسها وإلى العالم، لكنّ العلاقة الوثيقة بين ضفتي نهر الرين تبقى هي المحرك الأساسي للاتحاد الأوروبي. المستشار الديمقراطي الاشتراكي الجديد لا يشكل استثناءً: فبعد أدائه القسم سافر إلى باريس أول أمس ليلتقي إيمانويل ماكرون، في تأكيد واضح على أولويات سياسته الخارجية.

قبل ذلك بيوم، أعلن الرئيس الفرنسي المحاور الرئيسة لسياسته الأوروبية للستة أشهر الأولى من عام 2022، التي تتولى فيها بلاده رئاسة الاتحاد الأوروبي. سارعت المعارضة إلى اتهامه بأنه يريد أن يستخدم الرئاسة الأوروبية كسلاح لحملته لإعادة انتخابه في الرئاسة الفرنسية في أبريل، واضعةً في هذا الإطار إعلاناته بشأن مواجهة الوباء والتغيير المناخي والهجرة. في واقع الأمر، بعد انتخابه عام 2017، وضع إيمانويل ماكرون كمطمح رئيس لرئاسته الإصلاحَ الجذري للاتحاد، معتبرًا أنه بعد صدمات كادت تؤدي إلى تفكك الاتحاد وبعد بريكسيت، فهذا الأمر (إصلاح الاتحاد) يشكل شرطًا لاستمرار حياته. خطاباته أعطت الإطار لطموحاته المتقدمة، التي اصطدمت بالجمود الصادم لأنغيلا ميركل.

الحكومة الألمانية الجديدة المكونة من الديمقراطيين والخضر والليبراليين أحيت، في الزمن الأول على الأقل، الآمال الفرنسية. البرنامج المشترك للأحزاب الثلاثة، الذي تمّ تشكيله يوم 24 نوفمبر يتبنّى الشعار المحبب لدى ماكرون بشأن ” الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي” لأوروبا مقابل القوى العالمية الكبرى، فيما لا يتردد في تأييد التشكيل التدريجي ل” دولة اتحادية”. للمستقبل المباشر يقترح تشكيل وزارة خارجية حقيقية للاتحاد الأوروبي وإلغاء الإجماع في مسائل السياسة الخارجية، حيث يمكن للقرارات أن تُتخذ من الآن فصاعدًا بالأكثرية المعززة، وهو ما يعني أنه لا يمكن لمجموعة من الدول الصديقة بحقٍ للولايات المتحدة في شرق أوروبا أن تعطل القرارات.

سيكون من السذاجة أن يأمل المرء أن الخلافات بين باريس وبرلين، وهي متجذرة بعمق في التاريخ ومصالح الطرفين، سوف تنتهي بين يوم وآخر بفعل ساحر. لو كان ” الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي” يعني لماكرون بالدرجة الأولى حركة عسكرية ذاتية للاتحاد في الساحة الدولية، فبالنسبة لألمانيا المتحفظة أكثر بشأن تدخلات حربية الاكتفاء الذاتي يعني بشكل أساسي حقول الاقتصاد والصحة والتقنيات الحديثة. لكن حجر أساس التعاون الفرنسي الألماني يكمن في أكبر مسألة معلقة في الاتحاد: تغيير ميثاق الاستقرار والنمو.

وباء كوفيد19 مع الحجر وتقلص النشاط التجاري والقوى الطاردة التي كوّنها، اضطر أنغيلا مركيل لتتجاوز التابوهات الألمانية للانضباط المالي الحكومي، ما سمح للاتحاد بتأجيل الإجراءات الكبرى لميثاق الاستقرار والنمو بالنسبة للدين والعجز. الدول الأكثر تأثرًا في جنوب أوروبا تخاف أنه، مع الليبرالي “كريستيان ليندر” في وزارة المالية الألمانية، وهو حارس الجحيم في الميثولوجيا اليونانية ” كيرفيروس”، كحارس للانضباط المالي الحكومي، أكثر قسوة مع اليونان من فولفغانغ شويبليه في أزمة 2010-2015، فإن ألمانيا سوف تقود من جديد ” مجموعة المقتصدين” الشمالية الذين سوف يضغطون لأسرع عودة ممكنة إلى سياسة التقشف المعروفة.

نماذج للمرونة

لكنّ شيئًا كهذا ليس أكيدًا ولا سهل الحدوث. من حيث المبدأ، الليبراليون كانوا الحزب الرابع في الانتخابات الألمانية، وبالتالي فوزنهم التفاوضي محدود. بعد ذلك، المستشار الجديد أولاف شولتز، كوزير مالية في حكومة ميركل، كان الشخص الذي رفع الدّين الألماني بمقدار 400 مليار يورو خلال فترة الوباء، معطيًا نماذج لمرونة كبيرة. الأمر الأهم، ألمانيا هذه المرة لا تواجه مشكلة اليونان الصغيرة، بل دول كثيرة أصيبت بأزمة غير معهودة بسبب كوفيد19 ومن بينها الدولة صاحبة الاقتصاد الثالث في حزمة يورو، إيطاليا. صدامٌ مع إيطاليا يوف يعني بشكل تلقائي تفكيك اليورو. هذا ما كان في خاطر إيمانويل ماكرون، كما يبدو، لكي يوقع مع ماريو دراغي اتفاقية كيريناليو الأخيرة مشكّلاً جبهة جنوبية قوية قبيل التفاوض الكبير مع شولتز.

في ميدان السياسة الاجتماعية، يستطيع ماكرون بحق أن يأمل أن أولاف شولتز سيكون أكثر إيجابية مقابل مقترحات أساسية له، مثل تكريس الحد الأدنى الأوروبي للأجور لكي تتم فرملة ظاهرة ال دامبينغ الاجتماعي (التنافس المدمّر)، وفرض الضرائب على الشركات العالمية لمصلحة البرامج الاجتماعية والبيئية. لكن ظواهر عدم المساواة المتأصلة في ربوع الاتحاد الأوروبي تطرح معضلات واضحة. فعندما يتراوح الحد الأدنى ما بين 311 يورو في رومانيا و2.141  في لوكسمبورغ، يدرك المرء أن الطريق الى الالتقاء يقاس بأعوام ضوئية.

انحرافات وتحفظات

” الحقيقة الفجة هي أنه ليس في مقدور المستشار الألماني ولا الرئاسة الفرنسية قيادة أوروبا. المهادنات التي كانت بين أسلافهم لم تعد سارية. بغياب قيادة، يمكن تلخيص مستقبل أوروبا بكلمة: جمود”. إلى هذه الخلاصة المتشائمة انتهى تحليل إيلين تومسون في نيويورك تايمز. تزعم الكاتبة أن ماكرون يريد أوروبا قوة عظمى مستقلة، فيما سيتابع شولتز بشكلٍ أكبر، استراتيجية ميركل لتواصل اقتصادي وثيق مع الصين ودعم دفاعي للولايات المتحدة. هيئة تحرير ” لو فيجارو” الفرنسية كانت متحفظةً بشكل كبير بشأن التوأم ماكرون-شولتز كذلك، إذ حذّرت حديثًا أنه، مع معطى التفوق الألماني الاقتصادي مقابل فرنسا، فإن ” ألمانيا  (المستشار شولتز) الأكثر أوروبيةً سوف تؤدي إلى أوروبا ألمانية”. إنه واقع حقًا أن الاتحاد الأوروبي سوف يسير بشكلٍ أو بآخر إلى حقبة مهمة جدًا، حيث الحسابات المفتوحة والمتكدسة (ميثاق الاستقرار والنمو، الاتحاد المصرفي، السياسة الرقمية والبيئية، شينغن واللجوء) يجب أن يتمّ إقفالها.

بيتروس باباكوستاندينو

صحيفة كاثيميريني اليونانية

اترك تعليقاً